فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلف في قوله عز وجل: {ظاهرة وباطنة} على أقوال: فقال عكرمة عن ابن عباس: النعمة الظاهرة: القرآن والإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة، وقال الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقال مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام، والباطنة ما ستر من الذنوب، وقال الربيع: الظاهرة الجوارح والباطنة القلب، وقال عطاء الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة، وقال مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة، وقال سهل بن عبد الله: الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته، وقيل الظاهرة تمام الرزق والباطنة تمام الخلق، وقيل الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار، وقيل الظاهرة الإقرار باللسان والباطنة الاعتقاد بالقلب، وقيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك، ويروى في دعاء موسى: عليه السلام إلهي دلني على إخفاء نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس، ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار الأخذ بالأنفاس، ونزل في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله تعالى وفي صفاته.
{ومن الناس} أي: أهل مكة {من يجادل} أي: يحاجج فلا لهو أعظم من جداله ولا كبر مثل كبره ولا ضلال مثل ضلاله وأظهر زيادة التشنيع على هذا المجادل بقوله تعالى: {في الله} أي: المحيط علمًا وقدرة ثم بين تعالى مجادلته أنها {بغير علم} أي: مستفاد من دليل بل بألفاظ في ركاكة معانيها لعدم إسنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العجم فكان بذلك حمارًا تابعًا للهوى {ولا هدى} أي: من رسول عُهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات فوجب أخذ أقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها {ولا كتاب} أي: من الله تعالى، ثم وصفه بما هو لازم له بقوله تعالى: {منير} أي: بين غاية السبيان؛ بل إنما يجادل بالتقليد كما قال تعالى: {وإذا قيل} أي: من أي: قائل كان {لهم} أي: المجادلين هذا الجدال {اتبعوا ما أنزل الله} أي: الذي خلقكم وخلق آباءكم الأوّلين {قالوا} جحودًا لا نفعل {بل نتبع} وإن أتيتنا بكل دليل {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولًا وأقوم قيلًا وأهدى سبيلا، فهذه المجادلة في غاية القبح فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وبين كلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله تعالى وكلام الجهال {أولو} أي: أيتبعونهم ولو {كان الشيطان} أي: البعيد من الرحمه، المحترق باللعنة {يدعوهم} إلى الضلال فيوبقهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم لك {إلى عذاب السعير} وجواب لو محذوف مثل لا تتبعوه، والاستفهام للإنكار والتعجب، والمعنى أن الله تعالى يدعوهم إلى الثواب والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون الشيطان. اهـ.

.قال القاسمي:

{الم تلْكَ آيَاتُ الْكتَاب الْحَكيم} أي: ذي الحكمة الناطق بها: {هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسنينَ الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بالْآخرَة هُمْ يُوقنُونَ} بيان لإحسانهم، يعني ما عملوه من الحسنات، أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه، لإظهار فضلها وإناقتها على غيرها. والمراد بالزكاة، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقربًا بالتصديق منه، وتزكية للنفس بإيتائه، من وصمة البخل والشح المردي لها، لا أنصباؤها المعروفة؛ فإنها إنما بيّنت بالمدينة.
{أُوْلَئكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهمْ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ وَمنَ النَّاس مَن يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَن سَبيل اللَّه} تعريض بالمشركين، وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم، ليضلوا أتباعهم عن الدين الحق.
قال الزمخشري: واللهو: كل باطل ألهى عن الخير، وعما يعني. ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير، والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه، ويؤثرونه على حديث الحق. وقوله تعالى: {بغَيْر علْمٍ} أي: بما هي الكمالات ومنافعها، والنقائص ومضارها: {وَيَتَّخذَهَا هُزُوًا} الضمير للسبيل، وهو مما يذكر ويؤنث: {أُولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهينٌ}.
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْه آيَاتُنَا وَلَّى} أي: أعرض عنها: {مُسْتَكْبرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا} أي: ثقلًا مانعًا من السماع: {فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم خَالدينَ فيهَا وَعْدَ اللَّه حَقًّا وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ خَلَقَ السَّمَاوَات بغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} الضمير للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله: {بغَيْر عَمَدٍ} كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. والجملة لا محل لها؛ لأنها مستأنفة، أو في محل الجر، صفة للعمد، أو بغير عمد مرئية؛ يعني أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته. كذا في الكشاف: {وَأَلْقَى في الْأَرْض رَوَاسيَ} أي: جبالًا ثوابت: {أَن تَميدَ بكُمْ} أي: تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان: {وَبَثَّ فيهَا من كُلّ دَابَّةٍ} أي: من كل نوع من أنواعها: {وَأَنزَلْنَا} أي: لحفظكم وحفظ دوابكم، وللرفق بكم وبدوابكم: {منَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فيهَا من كُلّ زَوْجٍ} أي: صنف من الأغذية والأدوية: {كَريمٍ} أي: كثير المنافع.
{هَذَا} أي: ما ذكر من السماوات والأرض، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة: {خَلْقُ اللَّه} أي: مخلوقه: {فَأَرُوني مَاذَا خَلَقَ الَّذينَ من دُونه} أي: مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة: {بَل الظَّالمُونَ في ضَلَالٍ مُّبينٍ} إضراب عن تبكيتهم بما ذكر، إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة؛ لاستحالة أن يفهموا منها شيئًا، فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه، أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه. ووضعُ الظاهر موضعَ ضميرهم؛ للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه، ومتعدون عن الحدود، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. أفاده أبو السعود.
ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة. كيف لا؟ والتوحيد أساس الحكمة، بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحكْمَةَ} يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية، آمرين له على لسان نبي أو بطريق الإلهام؛ على قول الجمهور أنه حكيم. أو الوحي؛ على قول عكْرمَة أنه نبي {أَن اشْكُرْ للَّه} أي: على ما أعطاك من نعمه، من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا. كذا قاله المهايمي، والأظهر أنّ: {أَنْ} مفسرة؛ فإن إيتان الحكمة في معنى القول. والشكر: كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة؛ لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسه} لعود ثمرات شكره عليه: {وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنيٌّ حَميدٌ} أي: غني عن كل شيءٍ، فلا يحتاج إلى الشكر، وحقيق بالحمد. بل نطق بحمده كل موجود.
تنبيه:
قال ابن كثير: اختلف السلف في لقمان؛ هل كان نبيًا أو عبدًا صالحًا من غير نبوة، على قولين؟: الأكثرون على الثاني، ويقال إنه كان قاضيًا على بني إسرائيل، في زمن داود عليه السلام، وما روي من كونه عبدًا مسّه الرق، ينافي كونه نبيًا؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًا، وإنما يُنقل كونه نبيًا عن عكْرمَة، إن صح السند إليه؛ فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكْرمَة. قال: كان لقمان نبيًا. وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف. والله أعلم. انتهى.
وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة، وكان حكيم شعب وثنيّ، وكان منبأ عن الله تعالى، وأغرب في تقريبه، بأن الفعل العربي وهو: لقم، معناه بالعبري بلع. والله أعلم.
وقد نظم السيوطي من اختلف في نبوته، فقال:
وَاخْتُلفَتْ فيْ خَضرٍ أَهْلُ النُّقُوْلْ ** قيْلَ نَبيٌّ أَوْ وَليٌّ أَوْ رَسُوْلْ

لُقْمَانَ ذيْ القَرْنَيْن حَوَّا مَرْيَم ** وَالْوَقْفُ فيْ الجَميْع رَأْيُ الْمُعْظَم

ثم قرن لقمان، بوصيته إياه بعبادة الله وحده، البرَّ بالوالدين، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبالْوَالدَيْن إحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وكثيرًا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم. وقال ههنا:
{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ باللَّه إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإنْسَان بوَالدَيْه} أي: بالإحسان إليهما، لاسيما الوالدة؛ لأنه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي: ضعفا فوق ضعف إلى الولادة. و: {وَهْنًا}. حال من: {أُمُّهُ} أي: ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال؛ أي: تهن وهنًا. وقوله تعالى: {عَلَى وَهْنٍ} صفة للمصدر؛ أي: كائنًا على وهن، أي: تضعف ضعفًا فوق ضعف؛ فإنها لا تزال يتزايد ضعفها؛ لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلًا وضعفًا: {وَفصَالُهُ} أي: فطامه: {في عَامَيْن} ثم فسر الوصية بقوله سبحانه: {أَن اشْكُرْ لي وَلوَالدَيْكَ} أي: بأن تعرف نعمة الإحسان، وتقدره قدره.
قال في البصائر: الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فإن عدم منها واحدة، اختلّت قاعدة من قواعد الشكر، وكل من تكلم في الشكر، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور. انتهى.
وقوله تعالى: {إلَيَّ الْمَصيرُ} تعليل لوجوب الامتثال؛ أي: إليّ الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشري: فإن قلت: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفصَالُهُ في عَامَيْن} كيف اعتراض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين، ذكر ما تكابده الأم، وتعانيه من المشاق، والمتاعب في حمله، وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابًا للتوصية بالوالدة خصوصًا، وتذكيرًا بحقها العظيم مفردًا. ومن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن قال له من أبرّ؟: «أمك ثم أمك ثم أمك». ثم قال بعد ذلك: «ثم أباك». وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه بنفسه.
أَحْملُ أُمّيَ وَهيَ الْحَمَّالَهْ ** تُرْضعُني الدّرَّةَ وَالْعَلَالَهْ

وَلَا يُجَازَى وَالدٌ فعَالَهْ

الثاني: قال الحافظ ابن كثير: وقوله تعالى: {وَفصَالُهُ في عَامَيْن} كقوله: {وَالْوَالدَاتُ يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْن كَاملَيْن لمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال في الآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة، وتعبها، ومشقتها في سهرها ليلًا ونهارًا، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَاني صَغيرًا} [الإسراء: 24].
الثالث: قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت: المعنى في توقيته بهذه المدة، أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم، إن علمت أنه يقوى على الفطام، فلها أن تفطمه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَالْوَالدَاتُ يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْن كَاملَيْن لمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
{وَإن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلَا تُطعْهُمَا} أي: في إشراك ما لا تعلمه مستحقًا للعبادة، تقليدًا لهما. وقال الزمخشري: أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام. كقوله: {مَا يَدْعُونَ منْ دُونه منْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42].
قال في الكشف كذا: ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده، كما مر في القصص. وإلا لقال ما ليس بموجود. بل أراد أنه بُولغ في نفيه حتى جعل كلا شيء، ثم بُولغ في سلك المجهول المطلق.
قال الشهاب: وهذا تقرير حسن، فيه مبالغة عظيمة: {وَصَاحبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي: صحابًا معروفًا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم.
قال السيوطي في الإكليل: في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر، ومع ذلك يصحب معروفًا: {وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} أي: بالتوحيد والإخلاص في الطاعات، وعمل الصالحات: {ثُمَّ إلَيَّ مَرْجعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} كناية عن الجزاء، كما تقدم نظائره.
قال القاضي: والآيتان، يعني: {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَان} إلى قوله: {تَعْمَلُونَ} معترضتان في تضاعيف وصية لقمان، تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك. كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك؛ فإنهما- مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة- لا يجوز أن يطاعا في الإشراك. فما ظنك بغيرهما؟ انتهى.
ثم يبين تعالى بقية وصايا لقمان، بقوله سبحانه: {يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي: إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان، إن تك مثلًا في الصغر كحبة الخردل: {فَتَكُن في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّمَاوَات أَوْ في الْأَرْض} أي: فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر، في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العلم العلوي أو السفلي: {يَأْت بهَا اللَّهُ} أي: يحضرها ويحاسب عليها: {إنَّ اللَّهَ لَطيفٌ} أي: ينفذ علمه وقدرته في كل شيء: {خَبيرٌ} أي: يعلم كنه الأشياء، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازينَ الْقسْطَ ليَوْم الْقيَامَة فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] الآية، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 و8].
لطيفة:
قوله تعالى: {فَتَكُن في صَخْرَةٍ} الآية، من البديع الذي يسمى التتميم؛ فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادي قولها:
كَأَنَّهُ عَلَمٌ فيْ رَأْسه نَارُ

{يَا بُنَيَّ أَقم الصَّلَاةَ} أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها، لتكميل نفسك بعبادة ربك: {وَأْمُرْ بالْمَعْرُوف وَانْهَ عَن الْمُنكَر} لتكميل غيرك: {وَاصْبرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} أي: من المحن والبلايا، أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأن الداعي إلى الحق معرّض لإيصال الأذى إليه، وهو أظهر. ويطابقه آية: {وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر} [العصر: 3]، {إنَّ ذَلكَ} إشارة إلى الصبر، أو إلى كل ما أمر به: {منْ عَزْم الْأُمُور} أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب.
{وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس} أي: لا تعرض بوجهك عنهم، إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارًا منك لهم، واستكبارًا عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث: «ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط» {وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا} أي: خيلاء متكبرًا: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} أي: معجب في نفسه: {فَخُورٍ} أي: على غيره: {وَاقْصدْ في مَشْيكَ} أي: توسط بين الدبيب والإسراع: {وَاغْضُضْ من صَوْتكَ} أي: انقص من رفعه، وأقصر، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس، إنكارهم على صوت الحمير، كما قال: {إنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير} معللًا للأمر على أبلغ وجه وآكده وأنكر بمعنى أوحش. من قولك: شيء نكر؛ إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، كما يقال في العرف للقبيح. وحش، وأصله ضد الأنس والألفة. فهو إما مجاز أو كناية.
قال الزمخشري: الحمار مثلٌ في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردًا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به؛ فيقولون: الطويل الأذنين. كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عُد في مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافًا، وإن بلغت منه الرحلة. فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرًا، وصوتهم نهاقًا- مبالغة شديدة في الذم والتهجين، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. انتهى.
تنبيه:
جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة: منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول اله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه». وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع، فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار».
ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وعن عَوْن بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام- يعني السلام- ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. نقله ابن كثير رحمه الله.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض} أي: من النجوم والشمس والقمر، التي ينتفعون من ضيائها، وما تؤثره في الحيوان، والنبات، والجماد بقدرته تعالى، وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سُخرت له، وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار، ليستعملها من سُخرت له فيما فيه حياته، وراحته، وسعادته: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} أي: محسوسة ومعقولة، كإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل: {وَمنَ النَّاس} يعني الجاحدين نعمته تعالى: {مَن يُجَادلُ في اللَّه} أي: في توحيده وإرساله الرسل: {بغَيْر علْمٍ} أي: برهان قاطع مستفاد من عقل: {وَلَا هُدًى} أي: دليل مأثور عن نبي: {وَلَا كتَابٍ مُّنيرٍ} أي: منزل من لدنه تعالى، بل لمجرد التقليد. والمنير: بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال.
{وَإذَا قيلَ لَهُمُ} أي: لمن يجادل، والجمع باعتبار المعنى: {اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إلَى عَذَاب السَّعير} أي: يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال، هي أسباب العذاب، كأنه يدعوهم إلى عين العذاب. فهم متوجهون إليه حسب دعوته، ومن كان كذلك فأنى يتبعاه.